فصل: باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل التهجير إلى الظهر‏)‏ كذا للأكثر وعليه شرح ابن التين وغيره، وفي بعضها ‏"‏ إلى الصلاة ‏"‏ وعليه شرح ابن بطال‏.‏

وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ باب الاستهام في الأذان‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بينما رجل‏)‏ في هذا المتن ثلاثة أحاديث‏:‏ قصة الذي نحي غصن الشوك، والشهداء، والترغيب في النداء وغيره مما ذكر‏.‏

والمقصود منه ذكر التهجير، وقد تقدم الحديث الثالث مفردا في ‏"‏ باب الاستهام ‏"‏ عن عبد الله بن يوسف عن مالك، ويأتي الثاني في الجهاد عنه أيضا، والأول في المظالم كذلك وتكلمنا على شرحه هناك، وكان قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعا فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وتكلف الزين بن المنير إبداء مناسبة للأول من جهة أنه دال على أن الطاعة وإن قلت فلا ينبغي أن تترك، واعترف بعدم مناسبة الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فأخره‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فشكر الله له‏)‏ أي رضى بفعله وقبل منه، وفيه فضل إماطة الأذى عن الطريق، وقد تقدم في كتاب الإيمان أنها أدنى شعب الإيمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الشهداء خمس‏)‏ كذا لأبي ذر عن الحموي، وللباقين ‏"‏ خمسة ‏"‏ وهو الأصل في المذكر، وجاز الأول لأن المميز غير مذكور، وسيأتي الكلام على مباحثه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب احْتِسَابِ الْآثَارِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب احتساب الآثار‏)‏ أي إلى الصلاة، وكأنه لم يقيدها لتشمل كل مشي إلى كل طاعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ قَالَ خُطَاهُمْ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرُوا الْمَدِينَةَ فَقَالَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ أَنْ يُمْشَى فِي الْأَرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الوهاب‏)‏ هو الثقفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا بني سلمة‏)‏ بكسر اللام وهم بطن كبير من الأنصار ثم من الخزرج، وقد غفل القزاز وتبعه الجوهري حيث قال‏:‏ ليس في العرب سلمة بكسر اللام غير هذا القبيل، فإن الأئمة الذين صنفوا في المؤتلف والمختلف ذكروا عددا من الأسماء كذلك، لكن يحتمل أن يكون أراد بقيد القبيلة أو البطن فله بعض اتجاه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا تحتسبون‏)‏ كذا في النسخ التي وقفنا عليها بإثبات النون، وشرحه الكرماني بحذفها، ووجهه بأن النحاة أجازوا ذلك - يعني تخفيفا - قال‏:‏ والمعنى ألا تعدون خطاكم عند مشيكم إلى المسجد‏؟‏ فإن لكل خطوة ثوابا ا ه‏.‏

والاحتساب وإن كان أصله العد لكنه يستعمل غالبا في معنى طلب تحصيل الثواب بنية خالصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثنا ابن أبي مريم‏)‏ كذا لأبي ذر وحده‏.‏

وفي رواية الباقين ‏"‏ وقال ابن أبي مريم ‏"‏ وذكره صاحب الأطراف بلفظ ‏"‏ وزاد ابن أبي مريم ‏"‏ وقال أبو نعيم في المستخرج ذكره البخاري بلا رواية يعني معلقا، وهذا هو الصواب، وله نظائر في الكتاب في رواية يحيى بن أيوب لأنه ليس على شرطه في الأصول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ كذا لأبي ذر وحده أيضا وللباقين ‏"‏ حدثنا أنس ‏"‏ وكذا ذكره أبو نعيم أيضا، وكذا سمعناه في الأول من فوائد المخلص من طريق أحمد بن منصور عن ابن أبي مريم ولفظه ‏"‏ سمعت أنسا‏"‏، وهذا هو السر في إيراد طريق يحيى بن أيوب عقب طريق عبد الوهاب ليبين الأمن من تدليس حميد، وقد تقدم نظيره في ‏"‏ باب وقت العشاء ‏"‏ وقد أخرجه في الحج من طريق مروان القزارى عن حميد وساق المتن كاملا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فينزلوا قريبا‏)‏ يعني لأن ديارهم كانت بعيدة من المسجد، وقد صرح بذلك في رواية مسلم من طريق أبي الزبير قال ‏"‏ سمعت جابر رسول الله يقول‏:‏ كانت ديارنا بعيدة من المسجد، فأردنا أن نبتاع بيوتا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن لكم بكل خطوة درجة ‏"‏ وللسراج من طريق أبي نضرة عن جابر‏:‏ أرادوا أن يقربوا من أحل الصلاة‏.‏

ولابن مردويه من طريق أخرى عن أبي نضرة عنه قال ‏"‏ كانت منازلنا بسلع ‏"‏ ولا يعارض هذا ما سيأتي في الاستسقاء من حديث أنس ‏"‏ وما بيننا وبين سلع من دار ‏"‏ لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سلع، وبين سلع والمسجد قدر ميل‏.‏

*3*باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل صلاة العشاء في الجماعة‏)‏ أورد فيه الحديث الدال على فضل العشاء والفجر، فيحتمل أن يكون مراد الترجمة إثبات فضل العشاء في الجملة أو إثبات أفضليتها على غيرها، والظاهر الثاني، ووجهه أن صلاة الفجر ثبتت أفضليتها كما تقدم، وسوى في هذا بينها وبين العشاء، ومساوى الأفضل يكون أفضل جزما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس أثقل‏)‏ كذا للأكثر بحذف الاسم، وبينه الكشميهني في رواية أبي ذر وكريمة عنه فقال ‏"‏ ليس صلاة أثقل ‏"‏ ودل هذا على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى ‏(‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏)‏ وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما، لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم‏.‏

وقيل وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتب عليهما من الفضل لقيامهم بحقهما دون المنافقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولو يعلمون ما فيهما‏)‏ أي من مزيد الفضل ‏(‏لأتوهما‏)‏ أي الصلاتين، والمراد لأتوا إلى المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولو حبوا‏)‏ أي يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ‏"‏ ولو حبوا على المرافق والركب ‏"‏ وقد تقدم الكلام على باقي الحديث في ‏"‏ باب وجوب صلاة الجماعة‏"‏‏.‏

قوله في آخره ‏(‏على من لا يخرج إلى الصلاة بعد‏)‏ كذا للأكثر بلفظ ‏"‏ بعد ‏"‏ ضد قبل، وهي مبنية على الضم، ومعناه بعد أن يسمع النداء إليها أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور، وللكشميهني بدلها ‏"‏ يقدر ‏"‏ أي لا يخرج وهو يقدر على المجيء، ويؤيده ما قدمناه من رواية لأبي داود ‏"‏ وليست بهم علة ‏"‏ ووقع عند الداودي للشارح هنا ‏"‏ لا لعذر ‏"‏ وهي أوضح من غيرها لكن لم نقف عليها في شيء من الروايات عند غيره‏.‏

*3*باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب اثنان فما فوقهما جماعة‏)‏ هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة، منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير وفي أفراد الدار قطني من حديث عبد الله بن عمرو وفي البيهقي من حديث أنس وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضا ‏"‏ أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال‏:‏ ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه‏؟‏ فقام رجل فصلى معه، فقال‏:‏ هذان جماعه ‏"‏ والقصة المذكورة دون قوله ‏"‏ هذان جماعة ‏"‏ أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا حضرت الصلاة‏)‏ تقدم من هذا الوجه في ‏"‏ باب الأذان للمسافر ‏"‏ وأوله ‏"‏ أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال لهما ‏"‏ فذكره‏.‏

وقد اعترض على الترجمة بأنه ليس في حديث مالك ابن الحويرث تسمية صلاة الاثنين جماعة، والجواب أن ذلك مأخوذ بالاستنباط من لازم الأمر بالإمامة، لأنه لو استوت صلاتهما معا مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كأن يقول‏:‏ أذنا وأقيما وصليا‏.‏

واعترض أيضا على أصل الاستدلال بهذا الحديث بأن مالك بن الحويرث كان مع جماعة من أصحابه، فلعل الاقتصار عل التثنية من تصرف الرواة‏.‏

والجواب أنهما قضيتان كما تقدم، واستدل به على أن أقل الجماعة إمام ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلا أو صبيا أو امرأة‏.‏

وتكلم ابن بطال هنا على مسألة أقل الجمع والاختلاف فيها، ورده الزين بن المنير بأنه لا يلزم من قوله ‏"‏ الاثنان جماعة ‏"‏ أن يكون أقل الجمع اثنين وهو واضح‏.‏

*3*باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة‏)‏ أي ليصليها جماعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تصلي على أحدكم‏)‏ أي تستغفر له، قيل عبر بتصلي ليتناسب الجزاء والعمل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما دام في مصلاه‏)‏ أي ينتظر الصلاة كما صرح به في الطهارة من وجه آخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يزال أحدكم الخ‏)‏ هذا القدر أفرده مالك في الموطأ عما قبله، وأكثر الرواة ضموه إلى الأول فجعلوه حديثا واحدا، ولا حجر في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في صلاة‏)‏ أي في ثواب صلاة لا في حكمها، لأنه يحل له الكلام وغيره مما منع في الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما دامت‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ ما كانت ‏"‏ وهو عكس ما مضى في الطهارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يمنعه‏)‏ يقتضي أنه إذا صرف نيته عن ذلك صارف آخر انقطع عنه الثواب المذكور، وكذلك إذا شارك نية الانتظار أمر آخر، وهل يحصل ذلك لمن نيته إيقاع الصلاة في المسجد ولو لم يكن فيه‏؟‏ الظاهر خلافه، لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة، لكن للمذكور ثواب يخصه، ولعل هذا هو السر في إيراد المصنف الحديث الذي يليه وفيه ‏"‏ ورجل قلبه معلق في المساجد ‏"‏ وقد تقدم الكلام في الطهارة على معنى قوله ‏"‏ ما لم يحدث ‏"‏ وفيه زيادة على ما هنا، وأن المراد بالحدث حدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب الأولى، لأن الأذى منهما يكون أشد، أشار إلى ذلك ابن بطال‏.‏

وقد تقدم الكلام على باقي فوائده في ‏"‏ باب فضل صلاة الجماعة ‏"‏ ويؤخذ من قوله ‏"‏ في مصلاه الذي صلى فيه ‏"‏ أن ذلك مقيد بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى، وبتقييد الصلاة الأولى بكونها مجزئه، أما لو كان فيها نقص فإنها تجبر بالنافلة كما ثبت في الخبر الآخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر له، اللهم ارحمه‏)‏ هو مطابق لقوله تعالى ‏(‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏)‏ ، قيل‏:‏ السر فيه أنهم يطلعون على أفعال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها من الثواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وخبيب بضم المعجمة وهو خال عبيد الله الراوي عنه، وحفص بن عاصم هو ابن عمر بن الخطاب وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواه مالك في الموطأ عن خبيب فقال ‏"‏ عن أبي سعيد وأبي هريرة ‏"‏ على الشك، ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشذا في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبعة‏)‏ ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكرماني بما محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة‏.‏

والثاني عام وهو العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة‏.‏

وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنا عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعا من لفظه قال‏:‏ وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم بظله محب عفيف ناشئ متصدق وباك مصل والإمام بعـدله ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعا ‏"‏ من أنظر معسرا أو وضـع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ‏"‏ وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية فدل على أن العدل المذكور لا مفهوم له‏.‏

وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين بن عطاء الرازي المعروف بالهروي لما قدم القاهرة وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم، فسألته بحضرة الملك المؤيد عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئا، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على بيتي أبي شامة وهما‏:‏ وزد سبعة‏:‏ إظلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب وتاجر صدق في المقال وفعله فأما إظلال الغازي فرواه ابن حبان وغيره من حديث عمر، وأما عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سهم بن حنيف، وأما إنظار المعسر والوضيعة عنه ففي صحيح مسلم كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم وعون المكاتب فرواهما أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف المذكور، وأما التاجر الصدوق فرواه البغوي في شرح السنة من حديث سلمان وأبو القاسم التيمي من حديث أنس، والله أعلم‏.‏

ونظمته مرة أخرى فقلت في السبعة الثانية‏:‏ وتحسين خلق مع إعانة غارم خفيف يد حتى مكاتب أهله وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ونظمتها في بيتين آخرين وهما‏:‏ وزد سبعة‏:‏ حزن ومشى لمسجد وكره وضوء ثم مطعم فضله وآخـذ حق باذل ثم كافـل وتاجر صدق في المقال وفعله ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة وقلت في آخر البيت‏:‏ ‏"‏ تربع به السبعات من فيض فضله‏"‏‏.‏

وقد أوردت الجميع في ‏"‏ الأمالي‏"‏، وقد أفردته في جزء سميته ‏"‏ معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في ظله‏)‏ قال عياض‏:‏ إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل فهو ملكه‏.‏

كذا قال، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف، ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه‏.‏

وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن ‏"‏ سبعة يظلهم الله في ظل عرشه ‏"‏ فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به‏.‏

ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال‏:‏ المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل ثم بعد الاستقرار في الجنة‏.‏

ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش، وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الإمام العادل‏)‏ اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك رواه بلفظ ‏"‏ العدل ‏"‏ قال وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا، والمراد به صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولى شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ‏"‏ وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، وقدمه في الذكر لعموم النفع به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وشاب‏)‏ خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في عبادة ربه‏)‏ في رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان ‏"‏ بعبادة الله ‏"‏ وهي رواية مسلم، وهما بمعنى، زاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر ‏"‏ حـتى توفى على ذلك ‏"‏ أخرجه الجوزقي‏.‏

وفي حديث سلمان ‏"‏ أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معلق في المساجد‏)‏ هكذا في الصحيحين، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي ‏"‏ كأنما قلبه معلق في المسجد ‏"‏ ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد ‏"‏ معلق بالمساجد ‏"‏ وكذا رواية سلمان ‏"‏ من حبها ‏"‏ وزاد الحموي والمستملى ‏"‏ متعلق ‏"‏ بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام، زاد سلمان ‏"‏ من حبها ‏"‏ وزاد مالك ‏"‏ إذا خرج منه حتى يعود إليه‏"‏‏.‏

وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة، ومناسبتها للركن الثاني من الترجمة وهو فضل المساجد ظاهرة، وللأول من جهة ما دل عليه من الملازمة للمسجد واستمرار الكون فيه بالقلب وإن عرض للجسد عارض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحابا‏)‏ بتشديد الباء وأصله تحابيا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد ‏"‏ ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك ‏"‏ ونحوه في حديث سلمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ اجتمعا عليه ‏"‏ وهي رواية مسلم أي على الحب المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت‏.‏

ووقع في الجمع للحميدي ‏"‏ اجتمعا على خير ‏"‏ ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنيا عن عد الآخر، لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورجل طلبته ذات منصب‏)‏ بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال ‏"‏ دعته امرأة ‏"‏ وكذا في رواية كريمة، ولمسلم وهو للمصنف في الحدود عن ابن المبارك، والمراد بالمنصب الأصل أو الشرف‏.‏

وفي رواية ومالك ‏"‏ دعته ذات حسب ‏"‏ وهو يطلق على الأصل وعلى المال أيضا، وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال وقل من يجتمع ذلك فيها من النساء، زاد ابن المبارك ‏"‏ إلى نفسها ‏"‏ وللبيهقي في الشعب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ فعرضت نفسها عليه ‏"‏ والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره‏.‏

وقال بعضهم يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله ‏"‏ إلى نفسها ‏"‏ ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال إني أخاف الله‏)‏ زاد في رواية كريمة ‏"‏ رب العالمين ‏"‏ والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه إما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها، ويحتمل أن يقوله بقلبه، قال عياض قال القرطبي‏:‏ إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تصدق أخفى‏)‏ بلفظ الماضي‏.‏

قال الكرماني هو جملة حالية بتقدير قد، ووقع في رواية أحمد ‏"‏ تصدق فأخفى ‏"‏ وكذا للمصنف في الزكاة عن مسدد عن يحيى ‏"‏ تصدق بصدقة فأخفاها ‏"‏ ومثله لمالك في الموطأ، فالظاهر أن راوي الأولى حذف العاطف، ووقع في رواية الأصيلي ‏"‏ تصدق إخفاء ‏"‏ بكسر الهمزة ممدودا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف، ويحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي مخفيا، وقوله ‏"‏بصدقة ‏"‏ نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى لا تعلم‏)‏ بضم الميم وفتحها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شماله ما تنفق يمينه‏)‏ هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوبا ‏"‏ حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ‏"‏ وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا في محاسن الاصطلاح ومثل له بحديث ‏"‏ إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ‏"‏ وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان‏.‏

وقال شيخنا‏:‏ ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس‏.‏

انتهى‏.‏

والأولى تسميته مقلوبا فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء، وقد سماه بعض من تقدم مقلوبا، قال عياض‏:‏ هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب أو الصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة ‏"‏ باب الصدقة باليمين ‏"‏ قال‏:‏ ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال بمثل حديث عبيد الله فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله ‏"‏ ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان، فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير، وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك، وعقبه بأن قال‏:‏ سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا، إنما هو ‏"‏ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ‏"‏ قلت‏:‏ والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر، لأن الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب، وكذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار وفي الزكاة عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص بن عمر وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لما رأى عبد الرحمن قد تابع زهيرا ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو محتمل بأن يكون منه لما حدث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه‏.‏

وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد لأن المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه‏.‏

وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك مثل عبيد الله فقد عكسه غيره فواخذ مسلما بقوله مثل عبيد الله لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة والله أعلم، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة، إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي سعيد كما قدمناه قبل، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص، ولا عن حفص إلا من رواية خبيب‏.‏

نعم أخرجه البيهقي في الشعب من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة والراوي له عن سهيل عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات، ووافق في قوله ‏"‏ تصدق بيمينه ‏"‏ وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان الفارسي بإسناد حسن موقوفا عليه لكن حكمه الرفع‏.‏

وفي مسند أحمد من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعا ‏"‏ إن الملائكة قالت‏:‏ يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال‏؟‏ قال‏:‏ نعم الحديد‏.‏

قالت‏:‏ فهل أشد من الحديد‏؟‏ قال‏:‏ نعم النار‏.‏

قالت‏:‏ فهل أشد من النار‏؟‏ قال‏:‏ نعم الماء‏.‏

قالت‏:‏ فهل أشد من الماء‏؟‏ قال‏:‏ نعم الريح‏.‏

قالت‏:‏ فهل أشد من الريح‏؟‏ قال‏.‏

نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله ‏"‏ ثم إن المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه‏.‏

ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزفي ‏"‏ تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله ‏"‏ ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف والتقدير حتى لا يعلم ملك شماله‏.‏

وأبعد من زعم أن المراد بشماله نفسه وأنه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه، وقيل هو من مجاز الحذف والمراد بشماله من على شماله من الناس كأنه قال مجاور شماله، وقل المراد أنه لا يرائي بصدقته فلا يكتبها كاتب الشمال، وحكى القرطبي عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه، وفيه نظر إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة، وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية فسلم والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ذكر الله‏)‏ أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر، و ‏(‏خاليا‏)‏ أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي ‏"‏ ذكر الله بين يديه ‏"‏ ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد ‏"‏ ذكر الله في خلاء ‏"‏ أي في موضع خال وهي أصح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ففاضت عيناه‏)‏ أي فاضت الدموع من عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت، قال القرطبي‏:‏ وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه‏.‏

قلت‏:‏ قد خص في بعض الروايات بالأول، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي ‏"‏ ففاضت عيناه من خشية الله ‏"‏ ونحوه في رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعا ‏"‏ من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له بل يشترك النساء معهم فيما ذكر، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم‏.‏

وتخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن، حتى الرجل الذي دعته المرأة فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا فامتنعت خوفا من الله تعالى مع حاجتها، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلا فخشي أن يرتكب منه الفاحشة فامتنع مع حاجته إليه‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏ استوعبت شرح هذا الحديث هنا وإن كان مخالفا لما شرطت لأن أليق المواضع به كتاب الرقاق، وقد اختصرها المصنف حيث أورده فيه، وساقه تاما في الزكاة والحدود، فاستوفيته هنا لأن للأولية وجها من الأولوية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ هَلْ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا فَقَالَ نَعَمْ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل أنس‏)‏ تقدم التصريح بسماع حميد له منه في ‏"‏ باب وقت العشاء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلى الناس‏)‏ أي غير المخاطبين ممن صلى في داره أو مسجد قبيلته، ويستأنس به لمن قال بأن الجماعة غير واجبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم تزالوا في صلاة‏)‏ أي في ثواب صلاة كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبيص‏)‏ بكسر الموحدة وبالمهملة أي بريقه ولمعانه، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في ‏"‏ باب وقت العشاء ‏"‏ ويأتي الكلام على الخاتم في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل من غدا للمسجد ومن راح‏)‏ هكذا للأكثر موافقا للفظ الحديث في الغدو والرواح، ولأبي ذر بلفظ ‏"‏ خرج ‏"‏ بدل غدا، وله عن المستملى والسرخسي بلفظ ‏"‏ من يخرج ‏"‏ بصيغة المضارع، وعلى هذا فالمراد بالغدو الذهاب وبالرواح الرجوع، والأصل في الغدو المضي من بكرة النهار والرواح بعد الزوال، ثم قد يستعملان في كل ذهاب ورجوع توسعا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعد‏)‏ أي هيأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نزله‏)‏ للكشميهني ‏"‏ نزلا ‏"‏ بالتنكير، والنزل بضم النون والزاي المكان الذي يهيأ للنزول فيه، وبسكون الزاي ما يهيأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا ‏"‏ من ‏"‏ في قوله من الجنة للتبعيض على الأول وللتبين على الثاني، ورواه مسلم وابن خزيمة وأحمد بلفظ ‏"‏ نزلا في الجنة ‏"‏ وهو محتمل للمعنيين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كلما غدا أو راح‏)‏ أي بكل غدوة وروحة‏.‏

وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقا، لكن المقصون منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها، والله أعلم‏.‏

*3*باب إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة‏)‏ هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من رواية عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، واختلف على عمرو بن دينار في رفعه ووقفه، وقيل إن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يخرجه، ولما كان الحكم صحيحا ذكره في الترجمة وأخرج في الباب ما يغني عنه، لكن حديث الترجمة أعم من حديث الباب لأنه يشمل الصلوات كلها وحديث الباب يختص بالصبح كما سنوضحه، ويحتمل أن يقال‏:‏ اللام في حديث الترجمة عهدية فيتفقان، هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فالحكم في جميع الصلوات واحد، وقد أخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ ‏"‏ فلا صلاة إلا التي أقيمت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت‏)‏ أي إذا شرع في الإقامة، وصرح بذلك محمد بن جحادة عن عمرو بن دينار فيما أخرجه ابن حبان بلفظ ‏"‏ إذا أخذ المؤذن في الإقامة ‏"‏ وقوله ‏"‏ فلا صلاة ‏"‏ أي صحيحة أو كاملة، والتقدير الأول أولى لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة، لكن لما لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المصلي واقتصر على الإنكار دل على أن المراد نفي الكمال‏.‏

ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي فلا تصلوا حينئذ، ويؤيده ما رواه البخاري في التاريخ والبزار وغيرهما من رواية محمد بن عمار عن شريك بن أبي نمر عن أنس مرفوعا في نحو حديث الباب وفيه ‏"‏ ونهى أن يصليا إذا أقيمت الصلاة ‏"‏ وورد بصيغة النهي أيضا فيما رواه أحمد من وجه آخر عن ابن بحينة في قصته هذه فقال ‏"‏ لا تجعلوا هذه الصلاة مثل الظهر واجعلوا بينهما فصلا ‏"‏ والنهي المذكور للتنزيه لما تقدم من كونه لم يقطع صلاته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا المكتوبة‏)‏ فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كانت راتبة أم لا، لأن المراد بالمكتوبة المفروضة، وزاد مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار في هذا الحديث ‏"‏ قيل يا رسول الله ولا ركعتي الفجر‏؟‏ قال‏:‏ ولا ركعتي الفجر ‏"‏ أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر بن الحاجب وإسناده حسن، والمفروضة تشمل الحاضرة والفائتة، لكن المراد الحاضرة، وصرح بذلك أحمد والطحاوي من طريق أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَالَ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاثَ بِهِ النَّاسُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل‏)‏ لم يسق البخاري لفظ رواية إبراهيم بن سعد، بل تحول إلى رواية شعبة فأوهم أنهما متوافقتان، وليس كذلك فقد ساق مسلم رواية إبراهيم بن سعد بالسند المذكور ولفظه ‏"‏ مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا به نقول‏:‏ ماذا قال لك رسول صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال قال لي‏:‏ يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعا ‏"‏ ففي هذا السياق مخالفة لسياق شعبة في كونه صلى الله عليه وسلم كلم الرجل وهو يصلي، ورواية شعبة تقتضي أنه كلمه بعد أن فرغ، ويمكن الجمع بينهما بأنه كلمه أولا سرا فلهذا احتاجوا أن يسألوه، ثم كلمه ثانيا جهرا فسمعوه، وفائدة التكرار تأكيد الإنكار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عبد الرحمن‏)‏ هو ابن بشر بن الحكم كما جزم به ابن عساكر وأخرجه الجوزقي من طريقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت رجلا من الأزد‏)‏ في رواية الأصيلي ‏"‏ من الأسد ‏"‏ بالمهملة الساكنة بدل الزاي الساكنة وهي لغة صحيحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال له مالك بن بحينة‏)‏ هكذا يقول شعبة في هذا الصحابي، وتابعه على ذلك أبو عوانة وحماد ابن سلمة، وحكم الحفاظ يحيى بن معين وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي والإسماعيلي وابن الشرفي والدار قطني وأبو مسعود وآخرون علهم بالوهم فيه في موضعين‏:‏ أحدهما أن بحينة والدة عبد الله لا مالك، وثانيهما أن الصحبة والرواية لعبد الله لا لمالك، وهو عبد الله بن مالك بن القشب بكسر القاف وسكون المعجمة بعدها موحدة وهو لقب واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله، قال ابن سعد‏:‏ قدم مالك بن القشب مكة يعني في الجاهلية فحالف بني المطلب بن عبد مناف وتزوج بحينة بنت الحارث بن المطلب واسمها عبدة، وبحينة لقب، وأدركت بحينه الإسلام فأسلمت وصحبت، وأسلم ابنها عبد الله قديما، ولم يذكر أحد مالكا في الصحابة إلا بعض ممن تلقاه من هذا الإسناد ممن لا تمييز له، وكذا أغرب الداودي الشارح فقال‏:‏ هذا الاختلاف لا يضر فأي الرجلين كان فهو صاحب، وحكى ابن عبد البر اختلافا في بحينة هل هي أم عبد الله أو أم مالك‏؟‏ والصواب أنها أم عبد الله كما تقدم، فينبغي أن يكتب ابن بحينة بزيادة ألف ويعرب إعراب عبد الله كما في عبد الله بن أبي بن سلول ومحمد بن علي بن الحنفية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأى رجلا‏)‏ هو عبد الله الراوي كما رواه أحمد من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلي‏.‏

وفي رواية أخرى له ‏"‏ خرج وابن القشب يصلي ‏"‏ ووقع لبعض الرواة هنا ‏"‏ ابن أبي القشب ‏"‏ وهو خطأ كما بينته في كتاب الصحابة‏.‏

ووقع نحو هذه القصة أيضا لابن عباس قال ‏"‏ كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أتصلي الصبح أربعا‏؟‏ ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والبزار والحاكم وغيرهم، فيحتمل تعدد القصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لاث‏)‏ بمثلثة خفيفة، أي أدار وأحاط‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ أصل اللوث الطي، يقال لاث عمامته إذا أدارها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏به الناس‏)‏ ظاهره أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن طريق إبراهيم بن سعد المتقدمة تقتضي أنه للرجل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آلصبح أربعا‏؟‏‏)‏ بهمزة ممدودة في أوله، ويجوز قصرها، وهو استفهام إنكار، وأعاده تأكيدا للإنكار‏.‏

والصبح بالنصب بإضمار فعل تقديره أتصلي الصبح‏؟‏ وأربعا منصوب على الحال، قاله ابن مالك‏.‏

وقال الكرماني على البدلية قال‏:‏ ويجوز رفع الصبح أي الصبح تصلي أربعا‏؟‏ ‏.‏

واختلف في حكمة هذا الإنكار فقال القاضي عياض وغيره‏:‏ لئلا يتطاول الزمان فيظن وجوبها‏.‏

ويؤيده قوله في رواية إبراهيم ابن سعد ‏"‏ يوشك أحدكم ‏"‏ وعلى هذا إذا حصل الأمن لا يكره ذلك، وهو متعقب بعموم حديث الترجمة‏.‏

وقيل لئلا تلتبس صلاة الفرض بالنفل‏.‏

وقال النووي‏:‏ الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة ا هـ‏.‏

وهذا يليق بقول من يرى بقضاء النافلة وهو قول الجمهور، ومن ثم قال من لا يرى بذلك‏:‏ إذا علم أنه يدرك الركعة الأولى مع الإمام‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن كان في الأخيرة لم يكره له التشاغل بالنافلة، بشرط الأمن من الالتباس كما تقدم، والأول عن المالكية، والثاني عن الحنفية ولهم في ذلك سلف عن ابن مسعود وغيره، وكأنهم لما تعارض عندهم الأمر بتحصيل النافلة والنهي عن إيقاعها في تلك الحالة جمعوا بين الأمرين بذلك، وذهب بعضهم إلى أن سبب الإنكار عدم الفصل بين الفرض والنفل لئلا يلتبسا، وإلى هذا جنح الطحاوي واحتج له بالأحاديث الواردة بالأمر بذلك، ومقتضاه أنه لو كان في زاوية المسجد لم يكره، وهو متعقب بما ذكر، إذ لو كان المراد مجرد الفصل بين الفرض والنفل لم يحصل إنكار أصلا، لأن ابن بحينة سلم من صلاته قطعا ثم دخل في الفرض، ويدل على ذلك أيضا حديث قيس بن عمرو الذي أخرجه أبو داود وغيره ‏"‏ أنه صلى ركعتي الفجر بعد الفراغ من صلاة الصبح‏"‏، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله لم ينكر عليه قضاءهما بعد الفراغ من صلاة الصبح متصلا بها فدل على أن الإنكار على ابن بحينة إنما كان للتنفل حال صلاة الفرض، وهو موافق لعموم حديث الترجمة‏.‏

وقد فهم ابن عمر اختصاص المنع بمن يكون في المسجد لا خارجا عنه، فصح عنه أنه كان يحسب من يتنفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة، وصح عنه أنه قصد المسجد فسمع الإقامة فصلى ركعتي الفجر في بيت حفصة ثم دخل المسجد فصلى مع الإمام، قال ابن عبد البر وغيره‏:‏ الحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح، وترك التنفل عند إقامة الصلاة وتداركها بعد قضاء الفرض أقرب إلى اتباع السنة، ويتأيد ذلك من حيث المعنى بأن قوله في الإقامة ‏"‏ حي على الصلاة ‏"‏ معناه هلموا إلى الصلاة أي التي يقام لها، فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره والله أعلم‏.‏

واستدل بعموم قوله ‏"‏ فلا صلاة إلا المكتوبة ‏"‏ لمن قال يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة، وبه قال أبو حامد وغيره من الشافعية، وخص آخرون النهي بمن ينشئ النافلة عملا بعموم قوله تعالى ‏(‏ولا تبطلوا أعمالكم‏)‏ ، وقيل يفرق بين من يخشى فوت الفريضة في الجماعة فيقطع وإلا فلا، واستدل بقوله ‏"‏ التي أقيمت ‏"‏ بأن المأموم لا يصلي فرضا ولا نفلا خلف من يصلي فرضا آخر، كالظهر مثلا خلف من يصلي العصر، وإن جازت إعادة الفرض خلف من يصلي ذلك الفرض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه غندر ومعاذ عن شعبة عن مالك‏)‏ أي تابعا بهز بن أسد في روايته عن شعبة بهذا الإسناد فقالا عن مالك بن بحينة‏.‏

وفي رواية الكشميهني عن شعبة عن مالك أي بإسناده، والأول يقتضي اختصاص المتابعة بقوله عن مالك بن بحينة فقط، والثاني يشمل جميع الإسناد والمتن، وهو أولى لأنه الواقع في نفس الأمر‏.‏

وطريق غندر وصلها أحمد في مسنده عنه كذلك، وطريق معاذ - وهو ابن معاذ العنبري البصري - وصلها الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، وكذا أخرجه أحمد عن يحيى القطان وحجاج والنسائي من رواية وهب بن جرير والإسماعيلي من رواية يزيد ابن هارون كلهم عن شعبة كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن إسحاق‏)‏ أي صاحب المغازي عن سعد أي ابن إبراهيم، وهذه الرواية موافقة لرواية إبراهيم بن سعد عن أبيه وهي الراجحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد‏)‏ يعني ابن سلمة كما جزم به المزي وآخرون، وكذا أخرجه الطحاوي وابن منده موصولا من طريقه، ووهم الكرماني في زعمه أنه حماد بن زيد، والمراد أن حمادا وافق شعبة في قوله عن مالك بن بحينة، وقد وافقهما أبو عوانة فيما أخرجه الإسماعيلي عن جعفر الفريابي عن قتيبة عنه، لكن أخرجه مسلم والنسائي عن قتيبة فوقع في روايتهما عن ابن بحينة مبهما، وكأن ذلك وقع من قتيبة في وقت عمدا ليكون أقرب إلى الصواب، قال أبو مسعود‏:‏ أهل المدينة يقولون عبد الله بن بحينة وأهل العراق يقولون مالك بن بحينة، والأول هو الصواب‏.‏

انتهى‏.‏

فيحتمل أن يكون السهو فيه من سعد بن إبراهيم لما حدث به بالعراق‏.‏

وقد رواه القعنبي عن إبراهيم بن سعد على وجه آخر من الوهم قال ‏"‏ عن عبد الله بن مالك ابن بحينة عن أبيه ‏"‏ قال مسلم في صحيحه‏:‏ قوله عن أبيه خطأ‏.‏

انتهى‏.‏

وكأنه لما رأى أهل العراق يقولون عن مالك بن بحينة ظن أن رواية أهل المدينة مرسلة فوهم في ذلك، والله أعلم‏.‏